السبت، 31 ديسمبر 2011

الله لا يضيع أجر المحسنين

                                  الله لا يضيع أجر المحسنين.....
                                                                               ماجد موجد


 ان طبيعة الثقافة العربية عامة والعراقية خاصة  غالباً ما  تتجاوز الاحتفاء بالمثقف او المشتغل بالثقافة وذكر جهده الانساني والثقافي لحين موته، تلك السمة عرفناها وشبعنا منها، لكن ثمة بين الحين والآخر من يخرق هذه الطبيعة او هذا النظام الثقافي والأخلاقي بما يصدم المعتاد والمتعارف عليه وان كان على استحياء وبشكل غير كاف أو بقليل من الوضوح والحقيقة، وهو مافعله الكاتب علاء مشذوب عبود في مقاله المعنون (الحنين الى الغربة)  إذ انه خرج بالتمام عن ذلك العرف الاخلاقي في ثقافتنا وقد فاجأني المقال الذي تضمن بعضاً مماعشته في حياتي، حتى حسبت اني ميت وان علاء عرف ذلك قبل اي أحد من اولئك المتفوقين والمحترفين بالكتابة عن الاموات فلم يطق صبراً ليترك ذاكرته تنزف بكل اصرار ومكاشفة مع الذات والتاريخ والحقيقة والمواقف.
قد يقول قائل بل سيقول الكثيرون انني اشير الى ماجاء في مقال علاء مشذوب لأنه أشاد بي وبما ظهر مني من مواقف ان كانت بالمصادفة او بجهد واستعداد ويقين، ولا انكر حق من يقول مثل هذا الكلام ولكن بالوقت نفسه ليس من الخلق تجاوز مقال الصديق علاء مشذوب وحقه العظيم في ان يخرق ثقافة الاشادة بالاموات في أشادته بالاحياء حسب الحقائق والوقوعات، وما يجعلني غير قادر على تجاوز هذا المقال – واعترف - لانه كان صادماً لي ولم اكن اتوقعه في هذا الوقت، على الرغم من انه جاء لمناسبة  الحوار الذي أجراه معي الزميل علي السومري مؤخراً في جريدة الصباح ، فقد ذكرني مشذوب بما نسيته تماماً، أعني فترة وظروف لقائي الاول به قبل أكثر من عشرين عاماً وحتى حين التقينا بعد ذلك فلم يظهر منه ما يجعلني اتوقع مثل هذا الموقف المهم ولم يظهر مني ما يجعله يفعل ذلك، اذ كنت اعامله حين يبعث بمقالاته لي ابان تسلمي للقسم الثقافي، بطريقة عادية جدا، بل لطالما تعثرت بنشر مواده التي يبعثها وكان يتلقى ذلك بصدر رحب، ولذلك اقول ان موقفه في مقاله صدمني، مقاله الذي جعلني في منعطف جديد في حياتي سيما بعد ان اعاد نشره عدد من الاصقاء على الفيس بوك، بل صرت أنظر الى الاشياء بطريقة مختلفة لقد أعاد لي أمل الاستمرار بما استطيع  لأكون عند حسن ظن التأريخ ومن هم عاكفون على تدوينه بضمير حي.
وحيث ذاك فقد أرتأيت ان أوضح هنا ماجاء في مقال الصديق مشذوب حول بعض الظروف التي مرت بي في انتفاضة آذار وما حصل في السنة الاولى بعد سقوط نظام صدام والتي لم أذكرها علانية بمثل هذا التفصيل الا بشكل مقتضب في اجابة على سؤال وجه لي حول مجالدة القوى الظالمة لكن الاجابة لم تنشر وكذلك ماحصل بعد سفري الى القاهرة.....
 في مطلع العام 1991 خرجت - بعد استعدادات دامت شهورا  مع لفيف ممن قمطت عقولهم الاديولوجيا الواحدية مثلي ووضعتنا امام هدف واحد لاغير - الى شوارع منطقة سكناي آنذاك في مدينة كربلاء لأعلن مع الجمع سخطي ضد أعتى قوة عرفها تاريخ العراق الحديث، كنا نصرخ ايمانا بفكرة دست في ارواحنا وعقولنا (لا فتى الا علي انريد قائد جعفري) ودفعت جراء ذلك بعد كر وفر نورعيني مثلما دفع غيري ارواحهم بكل بسالة في واقعة يعرفها معظم أهالي كربلاء بل ودفعت مع اهلي وابناء عمومتي جراء هذه الفكرة والخروج من اجلها اشد السنوات بؤسا وضياعاً وتشرداً
 فمنذ العام 1991 وحتى سقوط نظام صدام كنت قد لاقيت ما لايحتمل من المآسي والحرمان والترويع في كل لحظة، حين  اتأمل نفسي مربوطاً الى خشبة بانتظار اطلاق الرصاص وكنت في كل لحظة تفكير من هذه أشم رائحة البارود واموت حقا، لقد كنت اتذوق رائحة الموت واتحسس العدم من حولي واشعر بغيبوبته، بل اشعر بالراحة لاني مت وتخلصت من رعب منظر صورتي وهي معلقة مع عدد من المطلوبين في الفرق الحزبية في منطقة حي (البعث) تحت لافتة تقول ( المشاركون في صفحة الغدر والخيانة ) تلك التسمية التي وصم بها كل المنتفضين آنذاك، الغريب ان صورتي كانت تظهرني وانا مصاب حسب مانقله لي بعض الأصدقاء حين جاؤوني الى مكمن هروبي في أحدى قرى ناحية غماس في محافظة الديوانية وقد تذكرت حينها ان من التقط لي هذه الصورة احد (السادة المجاهدين) بعد يومين من أصابتي ودخولي مستشفى الحسيني في كربلاء حين كان ذلك المستشفى قد خرج من سيطرة القوات الحكومية وقد قال لي ذلك الشخص لحظة التقاط الصورة وهو يشيد بشجاعتي: ان (السيد) يريد ان لايضيع أجر المجاهدين ولذلك أصرَّ على توثيق من تعرض للاصابة والاستشهاد.. ودون ان اعرف اي سيد يقصد ابتسمت لكاميرته وانا احلم بالأجر.....

 بعد أن اعلن ذلك النظام العفو عن بعض المشاركين في الانتفاضة استطعت التحرك باجازة مرضية عسكرية نجح في تدبرها احد اولاد عمومتي وكانت اول وجهة لي هي الهرب الى الشمال حيث كان لي هناك صديق كردي تعرفت عليه اثناء الشهور الاولى من خدمتي العسكرية نهاية الثمانينات وساذكر محاولة الهروب الفاشلة تلك لاحقا.

 حين عودتي خائبا صرت اتحرك ببطاقة تعريف مزورة اسهم من غير ان يدري او لا يدري الصديق زهير هداد باصدارها لي من رابطة الشعراء التابعة لاتحاد الشباب في الديوانية وفيها تاريخ ميلاد اقل من ذلك المطلوب للخدمة العسكرية، ما جعلني اعيش بطريقة واخرى ولكن في حياة لاتشبه اية حياة، ظلت رغبتي الاساس هي الهرب خارج العراق وقد أاتمنت عدداً من الاصدقاء لتسهيل ذلك المطلب الاضطراري وكانوا لي خير عون في كل شيء على الرغم من انني لم اوفق في مسعاي، وهم من الادباء الذين اتشرف بمعرفتهم وانحني لهم ولوقفتهم العظيمة معي ومع أسرتي طوال تلك السنوات العجاف والتي مازالت، وهم الشاعر محمد حسين الفرطوسي الذي حاول بكل بسالة وشجاعة ومغامرة من تدبر تسريحي من الجيش عبر احد اقاربه لكي اتمكن من الحصول على جواز سفر وحينما لم يحصل ذلك رافقني الى مدينة الشيخان للهروب الى شمال العراق وكدنا ان نمسك من قبل نقاط التفتيش ولم ينته به الامر حتى اعانني على تدبر ما يجعلني اعيش في بغداد وغيرها من المواقف ومنها انه اخبر الشاعر كزار حنتوش رحمه الله عما انا فيه والذي وقف وقفة لا تقل بسالة وشجاعة حين اعطاني رسالة موقعة باسمه الى وزير الثقافة في كردستان انذاك الشاعر شيركو بكه سي ورسالة اخرى الى الصديق القاص صلاح زنكنة لكي يسهم باخراجي عن طريق ديالى ومعروف خطورة مثل هذا الفعل الذي قام به كزار.. لكني خفت ان اسلم الرسالة الى زنكنة لاني كنت قد وجدته يجلس في مقهى حسن عجمي مع عدد من المثقفين المحسوبين على ذلك النظام.. لابقى رهين فكرة الهروب التي لم تحصل وابقى رهين اصدقاء حقيقين لايمكن نسيانهم ابدا..  الشاعر احمد ادم رحمه الله الذي لا أملُّ من ذكر مواقفه الشجاعة والباسلة ومن ثم الصديق القاص عبد الامير المجر الذي لم يقف دعمه لي بكل شجاعة حتى الآن ولا انسى ابدا مواقف عظيمة وباسلة قام بها الصديق جاسم كماش على الرغم من ظروفه الامنية الصعبة بعد اعدام اخيه وكذلك الصديق الشاعر المعروف بمواقفه الشجاعة سلمان داود محمد ولا انسى ايضا الموقف الشجاع للصديق الشاعر رعد مطشر مسلم الذي هو الآخر حاول اخراجي عن طريق كركوك الى الشمال وبقيت عنده مدة اسبوع لكن الأمر لم يحصل ايضاً لا انسى ايضا المواقف الكريمة  للاصدقاء الشاعر رحمن غركان الذي لم يمل مني قط وكذلك فعلت الشاعرة نجاة عبد الله والشاعرماجد عدام والقاص علي حسين عبيد والقاص نعيم شريف والشاعرعماد كاظم العبيدي وبالمقابل اتمنى نسيان المواقف السيئة بل القذرة احيانا حد الشعور بالتقيؤ لدناءتها وخستها من اولئك الذين حسبوا على المثقفين بل ان بعضهم كاد ان يتسبب بايصال رقبتي الى رصيف الاعدام وهم اليوم يكتبون عن جرائم صدام وعن الحريات والبلاد المظلومة ويتهكمون بمقالاتهم عن سوء الحال حين كان ويكون..
 2
 اول مرة سمعت فيها بأسم حزب الدعوة كان في العام 1981 حين تم القبض على شقيق والدي وقد نبا الي أذني انه ينتمي الى حزب الدعوة وظلت اصداء هذا الحزب تملأ ذاكرتي حد التخمة، فثمة الكثير من أولئك الذين قبض عليهم من اقربائنا ومعارفنا بتهمة الانتماء اليه ومن ثم لتبدأ صفحة جديدة من تصوراتي عن هذا الحزب مليئة برائحة الموت والرعب حين صارت تتقاطر علينا أخبار عن اعدام كل من تم القبض عليهم ومنهم اعدام عمي شاكر موجد وابنه محمود شاكر الذي حاول ان يثأر لأبيه فتم القبض عليه واعدامه وابنة عمي حكمة فرحان موجد التي تم القبض عليها واعدامها لانها ذكرت حزب الدعوة بخير امام محفل نساء في عزاء...ثم ليطرد معظم اقاربنا من وظائفهم بسبب حملة الاعدام هذه بعد ان سددنا طائعين وبكل رحابة صدر ثمن الاطلاقات بعد ان دوت في أجسادهم التي وجدنا بقاياها عظاما وخرقا بعد عشرين عاماً في بعض المقابر الجماعية.. وحسنا كانت تفعل الحكومة انها كانت لاتضيع أجر المحسنين، حين تصدر شهادات وفاة تذكر فيها السبب هو الاعدام وسبب الاعدام عادة ما كان مطلع الثمانينات هو الانتماء الى حزب الدعوة الذي كان يسمى حينذاك وحتى الآن بين البعثيين وأعوانهم بحزب الدعوة العميل.
 فلم يكن خروجي للمشاركة مع المنتفضين حصراً بسبب الانتماء العقائدي والاحساس بظلم العقيدة وانما كان فيه الكثير من الشعور بالثأر لأولئك الذين كسرت اعناقهم وخسفت صدورهم بسبب جريمة انتمائهم الى حزب الدعوة وهو الحزب الوحيد الذي كنت اعرفه واتفاخر بمعرفته دون بقية الاحزاب الاخرى المعارضة لذلك النظام، بل كل حزب معارض بالنسبة لي هو حزب الدعوة وكل من أعدم وان كان شيوعيا فهو بالمحصلة لدي اعدم بسبب حزب الدعوة..
بعد انتهاء أحداث الانتفاضة بشهور وكما ذكرت آنفا قررت الهروب الى منطقة كردستان، بعد أن عرفت انه المكان الوحيد الذي لم تستطع القوات الحكومية السيطرة عليه حين تعهدت أميركا بحمايته والحفاظ على أمنه - وحتى الآن هي عند عهدها وهو مالم تفعله مع بقية محافظات العراق لاسابقا ولا لاحقاً- وعلى الرغم من ان مقصدي الاول هو صديقي الكردي سيروان محمد يونس جرجيس والذي يشغل الآن منصباً قيادياً في أحدى المؤسسات الحكومية في كردستان، لكن مقصدي الاساس هو محاولة الوصول الى بعض قيادات ومقار حزب الدعوة، فقد عرفت من بعض الاصدقاء ان لديهم مقرا في منطقة زاخو، وبمغامرة حمقاء ولا اعرف كيف حصل ذلك في حينها فقد وجدت نفسي قريبا من منزل صديقي سيروان في محافظة دهوك، وعلى الرغم من ترحيبه بي لكن الاوضاع الصعبة التي كانت تمر بها المنطقة جعلت والد سيروان واعمامه - ومنهم عمه احمد يونس جرجيس الذي كان يشغل منصب مدير الشرطة العام قبل الانتفاضة - يصيبهم القلق من شخص عربي جنوبي شيعي يزورهم في هذا الوقت وثمة أكثر من علامة وسؤال عن كيفية وصولي عبر نقاط التفتيش الحكومية والكردية (البيشمركة)، احسست بقلق صديقي واحراجه حين سمعت لغطاً كرديا عم منزلهم وحين اتاني وقد بح صوته من الصراخ أخبرته اني لا أريد سوى الذهاب الى مقر حزب الدعوة وفعلا في الصباح الباكر سلمني امانة بيد أحد اصدقائه وفي سيارة نوع برازيلي انطلقنا الى منطقة زاخو، قلت للشخص الذي اوصلني الى المقر لاعليك الآن اذهب وانا ساتدبر الامر فهؤلاء اناس يعرفوني ويعرفون اهلي وتضحياتهم، كان المقر عبارة عن منزل شبه قديم يقع في احدى شوارع مدينة زاخو وصادف ذلك حينها في شهر رمضان، طرقت الباب فخرج لي شخص ملتح ويرتدي تراكسود رياضي.. سلمت عليه وعانقته وهو في دهشة من امري.. من انا؟ اي شخص هذا الذي ياتي اليهم وقد غطى نصف وجهه الضماد، أخبرته عن عمي وابنه وابنة عمي وعما جرى لهم ولأسرهم ولي، لكنه وبوجه متجهم تملأه الدهشة والنفور في آن، سألني عما اريده ؟ قلت له اريد ان ابقى هنا، انا مطلوب من قبل رجال حزب البعث وصوري معلقة في الفرق الحزبية.. زم شفتيه وقال لي، انه لايمكن استقبالي ابدا وان المخابرات العراقية قد وصلت اليهم قبل أيام وفجرت مقراً لهم وانهم انتقلوا الى هذا المقر قريباً ثم دخل وجاءني بورقة نقدية من قيمة خمسة وعشرين دينارا من الطبعة السويسرية قال لي هذا مايمكن ان افعله لك، ثم دخل واغلق الباب.
لايسع ان اسرد تفاصيل كل ماحصل لي بعد ذلك لانه يحتاج الى الكثير من الصفحات ولكن ساقول فقط انه سرعان ماوجدت نفسي في معتقل تابع للبيشمركة ولولا صديقي سيروان لكنت مت من الضرب والتعذيب لاعود بعدها الى بغداد وبطريقة هي الأخرى تشبه السحر....
بعد سقوط تلك القوة العاتية تنازلت عن الكثير من الاحلام ولم يكن سوى حلم واحد هو علاج وترميم عيني بما يجعلني ارفع النظارات الشمسية التي رافقتني منذ العام 1991 وقد حاولت كثيراً فعل ذلك لكن جميع المؤسسات الصحية قالت ان علاجي خارج العراق فقط، فما ان تسلم الحكم السيد الجعفري القيادي في حزب الدعوة حتى طفقت الى مكتبه بطلب لاصلاح عيني ومعي كتاب يؤيد مشاركتي في الانتفاضة موقع ومختوم من قبل الشيخ نجاح حسين كطان مدير مكتب ممثل السيد السستاني ومدير اعلام الحضرة الحسينية في كربلاء  (الذي كان رفيق صباي وعن طريقه عرفت مظلومية العقيدة وقد دس هذا المبدأ دسا في روحي وكان برفقتي في الانتفاضة بل ان ساعة الانطلاق كانت من منزله و ) وبتوقيع شهود معروفين في كربلاء وموقع من اللجنة القانونية في منظمة حقوق الانسان ومؤيد بكتاب من وزير الثقافة الاستاذ مفيد الجزائري حينها، ومدعم بكتاب من اللجنة الطبية في وزارة الصحة يؤكد عدم قدرة علاجي داخل العراق فكانت الاجابة غريبة ان الامر ليس من شؤون السيد الجعفري وانما من شؤون وزارة الصحة ، ومن ثم حاولت ثانية مع السيد نوري المالكي القيادي في حزب الدعوة في بداية تسلمه الحكم ومع كل كتب التاييد تلك اضفت لها كتاباً موقع من قبل الاستاذ فاضل ثامر رئيس اتحاد الادباء حينها وكتاباً من الزميل فلاح المشعل رئيس تحرير جريدة الصباح حينها والتي كنت اعمل فيها حينها ايضاً، وكانت اجابة مكتب المالكي لاتختلف عن سابقتها.
هل في هذا يعني أن كل ما لاقيته وأهلي من رعب وحرمان وتشرد حتى هذه اللحظة هو بسبب حزب الدعوة، ربما يمكن ان اقول لا.. لأن قيادات حزب الدعوة ليست معنية بكل ظروف من وثق بالحزب حسب خياره وتضرر جراء وثوقه، لكن يمكن ان اقول نعم.. فبمعزل عن تداعيات الظروف الأخرى وبمعزل عن كل الاخطاء الكارثية التي اقترفتها وسببت لي آلاماً أكبر وأسفاً ورعباً أكثر شناعة، يبقى السبب الرئيس هو حزب الدعوة الذي جعل عائلتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة ومعظم أولاد عمومتي وهم شيوخ عشيرة معروفين في الديوانية ومنطقة الفرات الاوسط، في أقسى لحظات الحياة وأشدها مرارة وحين وصل حزب الدعوة وقياداته الى الحكم لم ينصفوا الناس الذين آمنوا بأفكارهم ومعتقدهم بل ان منهم من أصابه الذل والأذى ربما بشكل اكبر من زمن الطغيان والاستبداد وما من شيء أكبر واكثر أذى من مفقدان الحلم وتبعثر الأمل..ولكن هل هذا كل شيء عن حزب الدعوة ابداً في الفقرة التالية له فيها الشيء الكثير.
 3
كل ما قلته وما أقوله هنا ليس من الخيال، بكل تأكيد ليس لأني القديس المنزه عن فعل السوء والكذب ولكن لأن كل ما أقوله هو من وقوعات حدثت أمام ومع شهود مازالوا أحياء وسأذكر أكثر الاحداث عجباً وأعني من عجبها انها صدرت مني وانا كنت اضعف من ان افعل ما فعلته، حتى اليوم وانا في القاهرة حين اتذكر تلك الاحداث اشعر بالخوف مما حصل.
فعلى الرغم من انني بعد أحداث الانتفاضة وتداعياتها والظروف المأساوية التي كان يمر بها العراق كله، كان شغلي الشاغل هو الهروب من المصير الذي يتربص بي في كل حين ولكن ما الذي يمكن لمثلي ان يفعل؟ اعني شخص مطلوب لحزب حاكم مثل حزب البعث وصوره معلقة في جدران المنظمة الحزبية في المدينة التي هرب منها الى مدينة أخرى لكي يشعر بشيء من الامان، كان المفترض أن اتدارى واسكت واكون مثل اية حشرة خائفة مدحوسة في اي مكان تحسبا للموت، لكني كنت غير ذلك تماما، فبعد عام تقريبا قضيته في بغداد عدت الى الديوانية نهاية العام 1992 لانتمي الى رابطة الشعراء الشباب في الديوانية وكما قلت ببطاقة تعريف مزورة واخوض الانتخابات لاكون عضو هيئة ادارية في الرابطة ثم أقدم على تأليف عمل مسرحي يتحدث عن الواقع المرير الذي كان يعيشه الناس في بداية الحصار الذي لم يعتادوا جحيمه بعد، ثم يقوم الصديق الفنان عبد الرزاق كاظم دهش لاخراج المسرحية وادخل انا فيها ممثلا دور مجنون، وتعرض امام الكادر المتقدم من الرفاق البعثيين ومن بينهم أمين سر فرع الحزب في المدينة، ثم أمام هذا الرفيق الحزبي وفي مناسبة أخرى القي قصيدة ضد قرار صدام بالاعتراف بالكويت والقصيدة كلها عتب عما جرى لنا بسبب الكويت ليخرج الرفيق الحزبي من القاعة قبل ان انهي قراءتي ولا اعرف كيف تركوني بسلام ربما لسبب واحد فقط ان منظري وانا اضع ضمادا على عيني وفوقه النظارات الشمسية ثم اني اقرأ قصيدة نثر خالية من الوزن وفيها عدد من الاخطاء جعلهم يعتقدون انني مجنون دون شك سيما وانني مثلت دور مجنون في العمل المسرحي بشكل بارع والا من ذلك الذي يتجرأ ان يعارض قرارا لصدام ، لكني رغم ذلك اختفيت بعد ذلك في بغداد مايقارب الشهر ثم عدت الى الديوانية لانتمي الى منتدى الادباء الشباب وارشح الى الانتخابات واكون امينا عاما للمنتدى في المحافظة ثم انتمي الى اتحاد الادباء وحينها وطبقا لوضع نفسي ومادي وامني متدهور شعرت بالخوف مما يمكن ان يحصل لي فتركت الامر واتجهت الى العبادة مرة اخرى بعد ان كنت هجرتها غاضبا حين رايت تقريرا في التلفزيون يظهر فيه السيد الخوئي وابنه يجلسان مع صدام ويدينان من قام بالانتفاضة..بينما كنت انا والشيخ نجاح وعدد من الاصدقاء المتحمسين للانتفاضة والمنتظرين لقيامها لم نفارق مسجد الخوئي في كربلاء كل يوم خميس حين كان يجيء من النجف ليؤم المؤمنين في صلاة المغرب والعشاء وكنت كمن يمسك برداء نبي مرسل كنت امسك طرف عباءته وانا ارتجف حد البكاء دون وعي ودون غيري ممن كان يحضر للصلاة لطالما بارك لي الشيخ نجاح تلك العاطفة الربانية ومع ذكر الاسباب التي دعتني للخروج منتفضا لكن حجتها الاساس هي فتوى السيد الخوئي التي جاءنا بها شخص نعرفه وهو من المتحمسين ايضا لنصرة العقيدة اسمه سيد مهدي ما ان دخل الى منزل الشيخ نجاح ووضع الفتوى امام عينيه حتى انطلقنا الى المدينة نهتف ونبسمل وندعوا بينما كانت الناس تواجهنا هلعة وكان كل شيء نحن ذاهبين اليه يدعوا للهلع والخوف لكنا بيقين بقينا مستمرين حتى اصبت ولله الحمد على ماكان.
كانت عودتي الى العبادة هذه المرة بشكل مختلف تماماً، فقد شاع في الديوانية أن هناك رجلَ دين شيعي يدعو الناس الى الاعتراف بحق الخلفاء الأربعة واحترامهم ولديه مجمل اخطاء وتصحيحات على مرجعيات المذهب الشيعي وان فيها الكثير من دسائس الفرس المجوس، التقيت بالرجل واسمه سيد محمد وهو يرتدي العمامة السوداء ولم يكن هناك الكثير من الوقت حت صرت احد اتباعه المقربين، كنا نصلي في مسجد شيعي او في جامع سني لافرق ابداً، لم تمض سوى شهور حتى قتل سيد محمد أثناء توجهه لصلاة الجمعة وقد اشيع ان من قتله هم كوكبة من رجال حزب الدعوة وأشيع ايضا انهم سيقتلون جميع اتباعه، ياربي الآن ماذا علي أن افعل فكلا الحزبين – الدعوة والبعث - لو كشف له امري سيقتلني، بقدرة قادر وبمعونة أحد الاخوة المؤمنين استطعت التوجه الى الموصل لا اريد ان اطيل في تفاصيل كثيرة ولكن تصوروا منظري وانا مؤذن جامع الموصل الكبير ومن ثم اتقدم للصلاة وخلفي يصلي العشرات من ابناء السنة ومن بينهم ضباط برتب كبيرة كانت عيونهم مهشمة من اثر تلك الهزيمة التي حدثت بعد غزو الكويت والحروب التي اطفأوا بها نار الانتفاضة من الغادرين والخونة، كل هؤلاء كنت اصلي بهم، هربت من الموصل بعد ايام الى بغداد فقد كثرت الاسئلة بين الاخوة المؤمنين عن وجود جنوبي يؤذن ويصلي بأهل الموصل، ثم سرعان ماطفقت راجعا الى الديوانية، ثم أقوم بالترشيح الى انتخابات اتحاد الادباء في الديوانية لاكون نائبا لرئيس الفرع وفي الوقت الذي بدأ فيه صدام بتوزيع المكارم وكان الشعراء والكتاب يتقاتلون على الثناء عليه وعلى تجربته الفذة بقيادة البلد كنت انا وبمعونة عدد من الاصدقاء أدير الأماسي والندوات الثقافية وأدعو مثقفين من بغداد بعضهم لم يزر الديوانية ابدا ومنهم الشاعر عبد الزهرة زكي والشاعر منذر عبد الحر والقاص عبد الستار البيضاني والروائي طه حامد الشبيب وغيرهم ثم اقنع والدي وهو شيخ عشيرة معروف لاقامة مأدبة عشاء في منزلنا لادباء وشعراء على غرار ماقام به شيوخ العشائر الاخرى في مهرجان لم يكن المستوى المادي لوالدي جيدا وكان لايطيق ان اقيم كثيرا في منزله بسبب وضعي الامني المربك لكنه اقتنع بأقامة المأدبة لانها ستخفي عني الانظار وتجعلني اشعر بالامان، ثم أصدر مجموعة شعرية على نفقة أحدى السيدات التي عملت معها لفترة في بغداد وأعلن موقفي انا و محمد الفرطوسي ونعيم شريف ضد كل من يكتب للنظام استمر ذلك لمدة سبعة أعوام تقريبا وخلالها نشرت قصيدة في جريدة الزمان جلب لي نسخة من الجريدة الصديق كاظم النصار حين كان في عمان وكان ذكر جريدة الزمان وحده يعني مشكلة امنية وكانت القصيدة أخذت النصف الاعلى من الصفحة واسمها (عم) وفيها إدانة واضحة للوضع القمعي في العراق وقد أخبرني مدير تحرير جريدة البيان التابعة لحزب الدعوة انه يوم قرأ القصيدة وكان حينها في عمان اقسم ان البعثيين سيعدمونني ...وبعد مدة ينشر لي في الزمان ايضا حوار اجراه معي الصديق محمد الفرطوسي ثم اصدر مجموعة شعرية ثانية عن دار الشؤون الثقافية بعد ان تم رفضها امنيا كما اخبرني الشاعر المرحوم رعد عبد القادر والكاتب ماجد السامرائي ثم تولى الناقد الشجاع باسم عبد الحميد حمودي مهمة اعادة قراءتها بوصفه خبيراً لها وقد وضع لها مقدمة ليجيز طباعتها ويذكر الجميع ان هذه المجموعة كتب عنها في سنة صدورها فقط أكثر من اربعين مقالة ودراسة لنقاد وكتاب مهمين وهذا ما لم يحصل حسب ماقاله لي باسم عبد الحميد حمودي لأي شاعر عراقي بعد السياب. ثم اصدر بعد ذلك وفي نفس العام مجموعة اخرى لكن بنسخ معدودة جدا وانشر عشرات المقالات والقصائد والحوارات في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وفي منتصف العام 1999 اصبح مسؤولا للقسم الثقافي في جريدة صوت القادسيتين الناطقة باسم الحزب والصادرة باسم مكتب الاستاذ عدي صدام ويتذكر ادباء الديوانية ماكنت افعله في هذه الجريدة وثقافيتها، ثم جاءني تبليغ من قبل إعلام أمانة سر الحزب في الديوانية وقد احتفى بي مسؤول الاعلام كثيرا وبعد حديث عن عديد مواضيع، طرح علي سؤال مفاده انني المقرب الى الحزب وانني ابنه فلماذا لا يسمع او يقرأ لي قصيدة عن القائد او الحزب والثورة؟ لم يكن امامي حينها سوى السماع والطاعة، وانا اعرف ان هذا السؤال ربما كان اجتهادا من المسؤول الاعلامي وربما لم يكن يتبعه اي تبعات ان كنت تجاوزته لكني في الحقيقة كنت انتظره حتى ابرر لنفسي ما كنت اريد القيام به لاني كنت اعيش في ظروف لايمكن لاحد ان يعيشها، فقط تصوروا مشهد انني ادفع عربة بيع الفواكه في صيف شوراع بغداد اللاهب وجرح عيني لايريد ان يندمل تماما فبعد ثمان سنوات وبعد اكثر من ستة عمليات جراحية لكن ما ان يمسه الحر حتى يعاد للتشقق والنزف، قبل ان اقدم على كتابة قصيدة تمجد الثورة وانجازاتها العظيمة، استنجدت بآراء عدد من الاصدقاء من بينهم سلمان داوود محمد واحمد ادم ومحمد الفرطوسي وماجد عدام وجاسم كماش وغيرهم ممن اثق بهم، بعضهم اجتهد بمشروعية ذلك وذكرني بعمار ابن ياسر يوم ذكر الاصنام مضطراً واخرون رحبوا جدا لكي اتخلص مما كنت فيه واداري على تمردي الذي صار معروفا للجميع وما من احد ليجرؤ على منعي سوى صديق او اخر تحفظ على الامر وقال انه خيار شخصي وفعلا كان ذلك وقد اتفقنا انا والصديق ماجد عدام على كتابة قصائد نثر فيها ذكر الوطن والحصار وغيرها من مفردات تتناغم مع تطلع رغبات القائد املاً بالحصول على مكافآته لكن ذلك لم يحصل فقد ذهبنا انا وماجد عدام الى ديوان الرئاسة بخجل لكي نستلم المكافآت لنجد ان اغلب الشعراء يقف طابورا هناك وحين لم نجد لنا حصة دخل ماجد عدام وخرج الي بصك مصدق بمبلغ مائة وخمسين الف دينار كنت اظن انه له لكن توضح انه كان لاحد الشعراء من كربلاء لقد وقع عليه واستلمه على انه ذلك الشاعر، كنت قد رفضت الفكرة تماما ولكنه الامر انتهى ماذا نفعل بالصك اردنا ان نعيده الى صاحبه، اخذت الصك وذهبت الى كربلاء والى الصديق احمد ادم حكيت له ماحدث وقلت له لم ارد تمزيق الصك حتى لايحرم منه صاحبه ولذلك طلبت منه ايجاد حل لكي نسلمه له وقد اعاننا الشاعر هادي الربيعي على هذه المهمة ولكن الشاعر الكربلائي اهتاج وماج ولم يتقبل الامر واراد ان يشتكي هادي الربيعي واحمد ادم الى ديوان الرئاسة واخبرته عما جرى فقال اذا ساشتكي على ماجد عدام فوقفت بكل بسالة وحماقة ايضا وقلت له انني المسؤول عن كل ذلك وساذهب معك الى ديوان الرئاسة فقال اذا ليذهب معنا احمد ادم وفعلا ذهبنا الى ديوان الرئاسة ومعلوم ماذا يعني ديوان الرئاسة ومعلوم ماذا يعني ان تسرق مكرمة القائد ومعلوم ما انا به لكي اتحمل مثل هذه المسؤولية، وقبل امتار من باب الديوان واشهد انه لم يكن بي قطرة دم واحدة بل كنت خارج الحياة تماما قلت للشاعر الكربلائي دع احمد ادم هنا انا من سيتحمل الامر كاملا وكنت ارتعش لان دخولي يعني الموت ضربا قبل ان اعدم رسميا تركنا احمد ادم ومشى بلا وعي وكانه تسرب من اصابع عزرائيل، وقبل ان ندخل الى مبنى ديوان الرئاسة التفت الي الشاعر الكربلائي وقد ملأ عينيه العطف لحالي والاعجاب بموقفي وقال لي مبتسماً انني لست أكثر منه شهامة ونبلاً واضاف ساخبرهم ان الصك جلبه أحد الاشخاص وسلمه اليك لكي تسلمه لي وانك لاتعرف هذا الشخص وانا ساؤكد ذلك وفعلا حصل مارسمنا له وخرجت سالماً مثل كل مرة بقدرة قادر...ربما سيسأل احد وكيف عرف ديوان الرئاسة هذه القضية؟ الامر بسيط جدا لقد كان أحد الشعراء الرائعين تبرع بكل نية سليمة وأخبرهم بكل التفاصيل..
بعد هذا الحادث المروع الذي شاع في الوسط الثقافي كان دافعا ان اصحح مسيرتي للتتناسب مع مسيرة الثورة والقائد فكتبت قصيدتين عموديتين وطنيتين حد العظم حصلت من خلال احداها على مائة الف دينار والاخرى مائة وخمسين الف ولم يمر وقت طويل حتى تم الاعلان من قبل القائد على منح الادباء رواتب شهرية وضعت الاسماء في اتحاد الادباء وكنا انا وماجد عدام هناك لنرى اسماءنا فنحن صرنا من كتاب النظام والحزب ولكن لم نجد اسمينا وهنا ثارت ثائرتنا فدخلنا الى نادي الاتحاد وملأنا جوفينا خمراً ثم رحنا ندبك ونهتف ضد الحزب البعث القائد وأزلامه وهنا يحضر حزب الدعوة ايضا فقد كنا ننشد اثناء دبكاتنا ودون اية لحظة تفكير بالـ كيف والـ لماذا:
شد حيلك ياحزب الدعوة.........شوف(؟؟؟؟؟) البعثي اشسوه
او
اشرد(؟؟؟؟) جوك اذيابه.....كل واحد مثل الدبابة..
وغيرها الكثير من الهوسات مما لا اتذكره لكن ما اذكره هو الهوسة التي اختتمنا بها هذ الهرج وهي هوسة تقول
تبّولة للبعث الصامد....
لقد قلبنا كلمة هلهولة بالتبولة سخرية من الحزب القائد وظل الجميع يرددها ويتذكرها
وكان كل ذلك في ممر المغاسل داخل مبنى المرافق الصحية للاتحاد وما ان خرجنا حتى وجدنا مجموعة من رجال الامن تطوق المكان كل ما اتذكره هي الصفعة التي تلقيتها من الشاعر محمد راضي جعفر ومن ثم ذهب ليصفع ماجد عدام وهو يسحبنا من ياقتينا ويقذف بنا في غرفة مكتبه في الاتحاد ثم اغلق الغرفة وعاد الينا بعد اكثر من ساعة وكان يشخط ويشتم ويلعن لم انس موقفه قط لقد انقذنا من رجال لو كانوا اخذونا ساعتها لكنا الان نسيا منسيا وياليت كان ذلك حصل..

- 4
اعرف ان كل ماكتبته الآن لايمكن ان يفي سنة واحدة من السنوات المريرة التي عشتها انا واسرتي واعرف ان اغلب العراقيين لم يكونوا اقل عذابا وضياعا مما عشته وحتى الان.. الان انا اعيش في القاهرة تحقق لي ذلك وهو الخروج من العراق، لقد انتهى صدام ونظامه ولكن لم تنته محنة خوفي واضطراب حياتي، وهنا في القاهرة لم اتخلص من علاقتي بحزب الدعوة وان كان الامر طفيفا وغير اكيد ايضا.. كيف ذلك؟ سأقول لكم..
ما ان سقط نظام صدام حتى كنت من اوائل الاشخاص الذين جاءوا الى بغداد ليروا احلامه تتحقق بناء على كل ماتقدم وغيره الكثير كانت اولى الخطوات هو نادي الصيد حيث قيل لي انه الان وكر الحكم الجديد بقيادة المناضل احمد الجلبي وفعلا التقيت ببعض مساعديه وما ان راوا نماذج من كتاباتي ومنها قصيدتي في جريدة الزمان والمقالات والحوارات حتى قيل لي انني منذ اللحظة مسؤول للقسم الثقافي في جريدة المؤتمر وهي الجريدة الثانية التي صدرت في العراق بعد السقوط او التحرير او الاحتلال..
بقيت في هذه الجريدة قرابة العامين وفعلت مافعلت حينها لانتقل بعد مشادة مع رئيس تحريرها الى جريدة المدى ثم تركت العمل بها بعد الانتكاسة الكبرى التي حلت بي باستشهاد الصديق الأحب الى قلبي وروحي احمد ادم ومن ثم منتصف العام 2005 عينت في جريدة الصباح في قسم التحقيقات ومن ثم محررا لصفحة اراء وافكار وفي هذه الصفحة بدأت مرحلة جديدة من التمرد والعصيان ضد كل من اراد مس العراق بالأذى مهما كان من الاحزاب السياسية او الحكومة او الاحتلال كانت حملة تصدي كبيرة بقيادة الماسترو احمد عبد الحسين ودعم الزميل فلاح المشعل، اشتد النقد كثيراً عبر مقالات صار يقرأها الجميع دون استثناء وفي الوقت التي تصلنا فيها رسائل اشادة واعجاب كانت تصلنا في المقابل رسائل تهديد ووعيد من قبل مليشيا الاحزاب الدينية التي سممت دم العراقيين بالكراهية لتندلع المواجهات ويتصاعد العنف ويكون لجريدة الصباح حصة الاسد فقد فجر المبنى اكثر من مرة واستشهد عدد من الزملاء منهم اثناء الانفجارات وآخرون اختطفوا وقتلوا شر قتل، لكنا نحن في القسم الثقافي الذي جمع الصفحة الثقافية وصفحتين للراي يوميا وملحق ادب الاسبوعي لم نتوقف في الاستمرار على ان نلقن المقاومة الشريفة ومليشيا الاحزاب الحاكمة وغير الحاكمة الدينية وغير الدينية وقادتها كل ما يثير غيضهم وسخطهم وماكان يثير غيضهم وسخطهم سوى كلمات الحق التي لعلعنا بها بكل شجاعة وحماقة - الاخيرة أعني بها نفسي - احمد عبد الحسين وانا واحمد عبد السادة ومن ثم التحق الينا نصيف فلك فضلا عن جهد زملائنا الآخرين في الاقسام الاخرى ومنهم يوسف المحمداوي ووليد فرحان وشمخي جبر وكاظم غيلان وتوفيق التميمي وان كان بشكل متباعد لكن كان للمحرري القسم الثقافي حكاياتهم المعروفة ولا انسى كان ايضا ثمة من يشد ازرنا ويشترك معنا بطروحاتنا وافكارنا من خارج الجريدة يأتي في مقدمتهم الصديق الكاتب سعدون محسن ضمد ، لكنني ساتبجح قليلاً هنا فقد كنت أمتاز عن هذا الرهط الثائر عبر الكتابة انني نقلت ثورتي وغضبي من كل السوء الذي رايته الى شاشات الفضائيات ومنها الحرية التي قدمني لها الصديق الكاتب ومعد البرامج قيس قاسم عجرش لعديد مرات ومن ثم فضائية الحرة والفيحاء والسومرية والبغدادية والعراقية وغيرها فضلا عن محطات الراديو فلم يمر اسبوع الا وكنت ضيفاً في حلقة تلفزيونية او عبر الهواء مباشرة لمناقشة الوضع السياسي والامني المتدهور في العراق او واحدة من كوارث الفساد الاداري والمالي وكان الضيوف معي عادة من قادة أو اعضاء الاحزاب الماسكة للعملية السياسية والحكومية في العراق وويلي لو امسك بي احد حمايتهم على انفراد ، ذلك أنني كنت اوجه اصابع الاتهام عن كل مايجري وجرى من خراب الى ضيوف البرنامج معي وهم بعمائمهم او بلحاهم الخفيفة مع القمصان والبدلات الايطالية والانكليزية، هم حينما يخرجون من الاستوديوا وعادة مايكون مساء يركبون أفخم السيارات بمواكب حماية مشددة وانا اخرج من الاستوديوا بنظارتي غير اللائقة ليلا في حيرة اي طريق اتخذ واي سيارة اركب حتى اتجنب السادة الضيوف لكي لايصفوا حسابهم معي. حدث مثل هذا مرة عن طريق المزاح من قبل احد اعضاء مجلس النواب وهو قيادي في حزب اسلامي جدا، فبعد خروجنا من الاستوديو وكنت معه في البرنامج وتحدثت متسائلا عن سبب كثرة الفساد في ظل حكم احزاب دينية متشددة، قال لي وامام الصديق المعد قيس قاسم: انكم الاعلاميون تضعون انفسكم في مواقف لاتقوون على تحمل نتائجها الان الايمكن ان القاك بعد خروجك من هنا واترصدك؟ وعلى الرغم ان الموقف اعقبه الضحك والتحايا..ولكني لم اطمئن فبقيت بمعية الصديق قيس حتى اوصلني الى منزلي وهو في مكان بعيد جدا عن محل سكناه..
نعود الى جريدة الصباح فبعد خمسة سنوات من العمل المشوب بالرعب والخوف وقد ذكرت ما كنت أحسه في الحوار الذي نشر مؤخراً فحين كنا نطمئن على حالنا بشكل رسمي من خلال مايقوله الزميل فلاح المشعل فهاهو فلاح المشعل يحال الى التحقيق مع الزميل احمد عبد الحسين بسبب مقال كتبه الأخير يتهم فيه - او هكذا فهم المقال - جهة حكومية بحادث سرقة صار معروفا في جميع وسائل الاعلام، ثم يقال المشعل من منصبه وهو خارج بغداد لحضور مؤتمر اعلامي في كردستان، ثم يحضر عدد من أعضاء مجلس الامناء المشرف على شبكة الاعلام وجريدة الصباح، الى مبنى الجريدة ليوضحوا لنا لماذا اقيل فلاح المشعل وقد ابدوا اراء تؤكد ان الموضوع لاعلاقة له بما نكتب وبحرية التعبير وانهم مع حرية التعبير وانهم سيفعلون كل ما من شأنه رفع سقف حرية التعبير وضمان الحال والاحوال، لكني وبكل صلافة وحماقة ايضا اقف لادافع عن فلاح المشعل دون بقية الحاضرين - ربما باستثناء موقف الزميل علي الربيعي الذي طالب بالاضراب عن العمل – فلم اعرف كيف لي ان تجرأت على كسر قرار الامناء وهم اناس مناضلون اثبتوا للجميع انهم طلاب حق ومثابات للديمقراطية وحرية التعبير وربما كل ماحصل للجريدة بعد ذلك ليس بسببهم وانما ثمة من هو اعلى منهم اداريا من ادرانا..فبعد هذا الحادث ومجيء الصديق عبد الزهرة زكي لادارة الجريدة تغير كل شيء صارت الجريدة اقرب الى المناخ الرسمي منه الى الجريدة المستقلة ولم يعد يمتلك رئيس التحرير اية صلاحيات تظهره انه رئيس تحرير فعلا تحت لافتة حرية التعبير والاعلام المستقل، ازداد شعوري بالخذلان مثل بقية الاصدقاء لكن خذلاني ليس جديدا بل تراكم وصرت لا اطيقه مع الخوف والقلق من كل شيء وكانت حينها قد وصلتني دعوة من القاهرة للمشاركة في اعمال مؤتمر عن النص الجديد مابعد قصيدة النثر يقام على هامش المعرض الدولي للكتاب وكنت احسب انه اذا ماقررت البقاء في مصر مراسلا فلا اظن ان احدا سيرفض طلبي فمدير الشبكة ورئيس التحرير صديقان لي قبل زمالة العمل، وقلت في نفسي منها احاول اصلاح عيني - كم كرهت هذه العبارة - ومنها ان أعيد لنفسي شيئاً من الاطمئنان، فلم أعد أحتمل ماكان يجري وخصوصا ان بعضهم استطاع ان يشق صف محرري القسم الثقافي او اننا لسبب وآخر لم نعد نطيق بعضنا وصارت بيننا حساسية لقاء وعمل اربكتنا تماما..المهم استطعت الحصول على مبلغ ايفاد قدره مليون دينار من شبكة الاعلام فضلا عن مكافأة خاصة قدرها 250 الف دينار من مديرها العام بعد ان اصبح كل شيء في الجريدة من صلاحياته لاسيما القضايا الادارية والمالية، على ان اعيده بكشوفات بعد مجيئي من القاهرة، لكن اجراءات تاخر الفيزة جعل كتاب الايفاد ينتهي قبل سفري وحين جاءت الفيزة قيل لي علي ان اقدم طلبا جديدا وفعلت ذلك وقدمت طلبا جديدا وهو امر اداري رتيني لان مبلغ الايفاد لدي موافقة مدير الشبكة تمت رسميا، قدمت الطلب وسافرت، في القاهرة دهشت بحياة وقررت البقاء فما الضير من ذلك؟ ما الضير ان اكون مراسلا للصباح مع الزميلة اسراء خليفة التي مضى على عملها اربع سنوات، ما الضير ان ابقى ستة اشهر، ستة اشهر فقط، ارسلت طلباً الى المدير العام وهو الزميل والصديق عبد الكريم السوداني وبوساطة الزميل والصديق عبد الزهرة زكي ورجوتهم فيه ان يتقبلوني مراسلا لمدة ستة اشهر لان وضعي النفسي والصحي اتعبني ووعدتهم ان اكون مثابرا ومجتهدا في عملي كنت اكتب الطلب استنادا على مرجعيات ماعانيته هناك قبل سقوط صدام وبعده واستنادا انني قدمت للصباح الكثير ويكفي اصابتي في واحدة من الانفجارات وانا اطفيء الحرائق مع بقية الزملاء وقد كتب ذلك الزميل سامر المشعل في اكثر من مقال.. واستنادا على ما تعرضت له من تهديد فردي وجماعي مع عدد من الزملاء مما جعلنا نبقى في مبنى الجريدة مدة ستة اشهر بنهاراتها ولياليها وقد حصل ماحصل لاسرتي جراء ذلك.. واستنادا على علاقة الصداقة مع الزميل عبد الزهرة زكي والزميل عبد الكريم السوداني التي تمتد لاكثر من خمسة عشر سنة واستنادا على اعجابهم بادائي وبتجربتي الشعرية والثقافية وارجو ولا اظنهم سينكران ذلك، واستنادا على اعجاب الزملاء نائب رئيس التحرير عدنان شيرخان ومدير التحرير الشاعر حميد قاسم بعملي وجهدي والتزامي المهني... واستنادا لكل ذلك لم اكن اعرف انه سيرفض طلب تجديد الايفاد وطلب عملي مراسلا بل وافصل من منصبي رئيسا للقسم الثقافي وافصل من الجريدة ويقطع نصف راتبي الاخير قبل المغادرة لسداد مبلغ الايفاد ويبقى بذمتي نصف المبلغ الآخر دينا في عنقي..ولكن ماعلاقة حزب الدعوة بهذه الاجراءات القاسية وغير الانسانية ولا المهنية مع كاتب ورئيس قسم ثقافي خدم الجريدة في ظروف استثنائية في كل شيء انا اقول لكم استنادا الى الاستنادات التي اوضحتها تصدع راسي من العجب والدهشة مما قام به الزملاء الاصدقاء القادة في الجريدة والشبكة ورحت اتحرى عن الامر حتى وصلني اميل يقول ان الزملاء الذين تعتب عليهم قد ملوا من اقناع احد اعضاء حزب الدعوة من الامناء لكي يتم تنسيبك مراسلا في القاهرة او قبول تجديد طلب ايفادك ولكنه رفض رفضا قاطعا وهو يقول لن انسى وقوفه وتطاوله وهو يدافع عن فلاح المشعل واكمل نصا..خلي فلاح يفيده..
لن اصدق حقيقة ماجاء بهذه الرسالة ولو كان كاتبها صادقا لذكر اسمه لصريح لي.. لكني اصدق انني مازلت مندهشاً من موقف الزميلين الصديقين عبد الكريم السوداني وعبد الزهرة زكي وانني الآن اكتب للصباح على طريقة المكافأة حتى اسدد ماتبقى علي من مبلغ الايفاد وهو خمسمائة الف دينار لاغير وكان ذلك نزولا عند طلب صديقي وزميلي الحبيب زياد جسام...الذي الح علي كثيرا لايجاد وسيلة لسداد مبلغ الايفاد وهو خمسمائة الف دينار لاغير لانهم استقطعوا من راتبي الذي تركته لاسرتي بعد سفري وقد وردني ان حسابات الجريدة وحسابات الشبكة كل يوم تاتي الى القسم الثقافي ليطلبوا منهم اخباري لكي اسدد مبلغ الايفاد وهو خمسمائة الف دينار لا غير بعد ان اخذوا واستقطعوا نصف راتبي وقد تركته لعائلتي فحين سفري لم اترك لهم سوى الراتب...هل أعيد هذه الغصة التي ترعد في صدري.. لا.. لكن بعد سداد المبلغ الخمسمائة الف دينار التي بذمتي وهي مايعادل اربعمائة دولار فقط لاغير لخزينة الحكومة لكي لايختل النظام المالي في البلد وان شاء الله سيحصل خلال هذا الشهر فقد ارسلت الى الجريدة مواد تكفي لو انصفوني بالمكافآت لسداد الاربعمائة دولار للحكومة وتعود الموازنة الى وضعها الطبيعي، لكن اتمنى وادعوا الله ان يسمحوا لي بالاستمرار في الكتابة على نظام القطعة في الجريدة فهي جريدة دولة العراق، العراق الذي لم احصل على خير منه قط لا من أرضه ولا من سمائه.. فهل يكون لي ذلك؟...اتمنى من الاحزاب السياسية والحكومة ومن كل قادة حزب الدعوة واستناداً لكل ما تقدم ان يتدخلوا بعد سدادي لمبلغ الاربعمائة دولار من اجل طلبي بالبقاء كاتبا على نظام القطعة في جريدة الصباح فلا اعرف ماذا سيحصل استنادا الى ماتقدم.. فقد ضاعت الاحلام ورضيت بالمقسوم ودونه وان فعلوا ذلك.....
فان الله لا يضيع أجر المحسنين.....
 

ليست هناك تعليقات: