السبت، 13 نوفمبر 2010

الأبعاد السياسية والاجتماعية والايديولوجية لهجرة المسيحيين من الشرق


المسيحيون في الشرق إلى اين؟

مجلس بطاركة الكاثوليك يدق ناقوس الخطر

كتبت ميشلين ابي سلوم *

الوجود المسيحي في الشرق"" كلمات تطرح سؤالاً بات يتردّد بقوة اليوم حول مستقبل هذا الوجود بعد ان ترافق بألم كبير وانتقل صداه ليشمل كل المنطقة التي بدأت تعاني من فقدان الوجود المسيحي على ارضها ، فهجرة المسيحيين من الشرق مشهد يتكرر ويتنقل حيث مسلسل اضطهاد الأقليات المسيحية في المنطقة يجرى بمعدل سريع، ولا يقتصر اضطهاد الأقليات المسيحية على منطقة الشرق الأوسط فقط ، بل يتعداها الى مناطق فى الشرق الأقصى وأفريقيا حيث تعاني الأقليات المسيحية اضطهاداً منظّماً ، وهناك دول ضالعة فى تمويل الاعتداءات على مسيحيى الشرق بهدف عدم استقرار المنطقة ، ما ادى شيئاً فشيئاً الى تفكيرهؤلاء المسيحيين بالهجرة بعد ان شعروا انهم رهائن في هذا الشرق، فزاد منسوب القلق والخوف على مستقبل وجودهم حيث تقلص إلى مستويات غير مسبوقة في العقود الأخيرة، بفعل سوء الأوضاع المعيشية وانعدام الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، الناجم عن تنامي التيارات الأصولية..
وعلى الرغم من تفاقم هذا الخطر، فإن هذا الواقع لم يحظَ بالاهتمام المطلوب وطنياً وإقليمياً ودولياً، وفي أحسن الحالات تم إغفاله وإهماله، والقلة التي تنبهت لمخاطر استمرار النزف المسيحي من الشرق استفاقت متأخرة جدا،ً وقد لا تفيد في التخفيف من آلام المسيحيين ما لم يسبقها إجراءات عاجلة لوقف هذا النزف المستمر، وإجراءات تؤكد تحّمل الحكومات لمسؤوليتها في القيام بواجباتها القانونية وفي توفير الحماية والأمن لمواطنيها المسيحيين، وكذلك الامر بالنسبة الى تحّمل المجتمع الدولي حماية هذا الوجود، كما ان مسؤولية الحفاظ على التنوع القومي والديني لا تقع على عاتق الفاتيكان والمجتمع الدولي وحدهما، بل بدرجة أساسية على عاتق النخب والحكومات الوطنية الممثلة للغالبية العربية والمسلمة، للمطالبة ليس بإظهار حرصها على التعدد والتنوع فقط وإنما رعايته واحتضانه في دولها حتى يتم ترسيخه وتجذيره كي لا ُتستدرج إلى ما يسمى صراع الحضارات، أو تنزلق إلى نموذج الدول ذات القومية الواحدة، والدين الواحد واللغة الواحدة. .
لذا بات الوجود المسيحي مهدداً اليوم اكثر من اي وقــت مضى، فالهجمات كانت ثقافية وفكرية الطابع، والــيــوم باتت دمــويــة وعنفية، فالهجوم الفكري اصبح ضعيفاً امام العنف ، والــفــكــر مهما كــان متشدداً يمكن ان ُيناقش، اما العنف فلا نقاش معه، من هنا يعيش المسيحيون في الشرق حالة خوف على مستقبلهم ويبحثون دائماً عن ملاذ آمن في مكان ما من العالم، بعد أن افتقدوه في أوطانهم الأم، وبعد أن تلاشت أحلامهم بـدولة وطنية مدنية حديثة، ُتحقق لهم المساواة التامة مع شركائهم، لان المسيحيين إعتادوا العيش بسلام ورقيّ مما أتاح الفرصة للمتطرفين من كافة العقائد والأعراق لتنفيذ مهامهم واستهداف المخالفين لهم في العرق أو العقيدة بعمليات القتل أو الترحيل القسري من أماكنهم ، وقد آن الاوان للمجتمعات الدولية ان تتحرك بدل ان ُتطلق الكلمات والشعارات فقط,.
عدد المسيحيين في تراجع
وكان مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في مؤتمره السادس عشر في شهر تشرين الأول المنصرم قد دٌق ناقوس الخطر على "الوجود المسيحي في الشرق وضعف انتماء المسيحيين الى المنطقة ووهنه", بحجة أن مسيحيي لبنان أصبحوا يشكلون 29 في المئة من مجموع السكان العام خلال العام2010 وأن مسيحيي القدس تراجعوا من 45 ألفاً في أربعينيات القرن العشرين الى 5 آلاف مطلع هذا القرن، الأرمن الكاثوليك لم يبق منهم سوى 17 في المئة، هجرة قبطية متزايدة خلال السنوات العشرين الماضية، هجرة مسيحية جماعية من العراق، المسيحيون السوريون تراجعوا من 16،5 في المئة من سكان سوريا قبل ربع قرن الى أقل من 10 في المئة، باختصار بقي في الشرق العربي أقل من 10 ملايين مسيحي بين 300 مليون من الديانات الأخرى. لم يغفل البطاركة الإشارة الى مسؤولية استبداد الأنظمة التسلطية عن هجرة المسيحيين، إلا انهم لم يأخذوا في عين الاعتبار الحقائق والأبعاد السياسية والاجتماعية والايديولوجية الآتية:.
أولاًــ إذا كان صحيحاً ان هجرة المسيحيين في الشرق في اطراد منذ النصف الثاني من القرن الماضي بل منذ القرن التاسع عشر، نظراً الى تقبّل هؤلاء العقل الليبرالي الغربي وانفتاحهم المبكر على فكر الحداثة، إلا ان هجرة غير المسيحيين ونخبهم المثقفة خصوصاً، لا تقل حجماً ويجب ان تكون أيضاً مثار قلق وتساؤل..
ثانياً ــ إذا كان البطاركة قد أتوا على مسؤولية الكنيسة عن هجرة المسيحيين إلا انهم لم يذهبوا بعيداً في تحديد تلك المسؤولية، وفي شكل خاص عن هجرة النخبة المتنوّرة منهم، نتيجة إرهاب وتسلّط زعمائهم الطائفيين الذين مالوا الى التعصب والانغلاق وسايروا إجمالاً اتجاهات التطرف والانعزال. ولا نريد ان ندخل في تفاصيل مأساة أسعد الشدياق، أو جبرائيل دلال الحلبي، ولا في معاناة فارس الشدياق وفرنسيس المراش وأديب إسحق، أو في ملابسات هجرة جرجي زيدان وشبلي شميل وغيرهما ممن لاذوا الى مصر هرباً من جور زعماء طوائفهم وطغيانهم الايديولوجي. ولا نريد ان ندخل في موقف هؤلاء الزعماء من جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود، ولا نود التذكير بتفاصيل الدور الذي أدّته الميليشيات المسيحية التي كانت متعاطفة إجمالاً مع زعاماتها الطائفية, في هجرة المسيحيين اللبنانيين إبان الحرب الأهلية اللبنانية..
فداحة الهوة الطبقية أحد عوامل الهجرة
ثالثاًــ من الخطأ والاجتزاء طرح هجرة المسيحيين الشرقيين بمعزل عن أزمة المجتمع والأمة عموماً، التي من مظاهرها المأساوية فداحة الهوة الطبقية وتركّز الثروة والملكية والنفوذ في أيدي فئة ضئيلة تستأثر بالمواقع دافعة المواطنين الى الفقر والتهميش والحرمان وتالياً الى البحث عن وطن بديل.
إن الطبقات المسيطرة في العالم العربي التي يشكل زعماء الطوائف جزءاً منها هي التي تهجّر المسيحيين والمسلمين على السواء، بسلبهم حقوقهم الانسانية وسحق تطلّعاتهم الى مجتمع عربي يصون كرامة المواطن ويحتضن تطلعاته الى الحرية والكرامة والعدل السياسي والاجتماعي. إن المسيحيين وغيرهم على السواء، إذ يهاجرون، إنما يفرّون من ضحالة مجتمعاتهم الى مجتمعات تأخذ في الحسبان كفاءاتهم وحقوقهم الانسانية وتفتح أمامهم سبل التقدم والنماء والعيش الكريم. لا يجوز كذلك إغفال الدور الذي تضطلع به العولمة المتوحشة، ليس فقط في هجرة المسيحيين الشرقيين بل في الهجرات الواسعة لشعوب الأطراف، والعرب منها، في اتجاه المراكز الرأسمالية نتيجة انسداد الآفاق وتضاؤل الفرص.
رابعاًــ إن صمود المسيحيين في الشرق، على رغم توجّسهم المشروع إزاء التوجّهات الأصولية المريبة، رهن بانفتاحهم على الأفق الحضاري الرحب، العربي والاسلامي، باعتبار الإسلام حضارة لكل العرب مسلمين ومسيحيين، وبتجذّر انتمائهم الى أمتهم وهمومها وقضاياها الكبرى، وانخراطهم في قيادة مصيرها، لا بالانكفاء الى أوهام التميّز الأقلوي والانسحاب الى أوطان بديلة. أليس هذا ما جعل متنوّريهم يتقدمون الحركات القومية والوطنية والاجتماعية، فينادي بطرس البستاني، للمرة الأولى في الفكر العربي الحديث وفي ستينيات القرن التاسع عشر، بالقومية العربية والوطنية اللاطائفية، ويبادر نجيب العازوري كذلك الى طرح الوحدة القومية العربية المشرقية، ويدعو أنطون سعادة الى وحدة سوريا الطبيعية، وأمين الريحاني الى الوحدة العربية الشاملة في مرحلة مبكرة من تاريخ نهضتنا القومية المعاصرة؟
وكذلك كان المسيحيون الشرقيون في طليعة النهضة الاجتماعية فتصدر فرنسيس المراش وفرح أنطون وشبلي الشميّل وأديب إسحق الحركة العلمانية والمناداة بدولة العقل والحرية والعدالة والمساواة الانسانية. هذا هو، الوجه المشرق الذي يجب استحضاره، في وقت تتعرض فيه الأمة والحضارة والأرض والتاريخ، لأشرس الهجمات الاستعمارية والصهيونية من العراق الى فلسطين الى لبنان.

*صحافية لبنانية.

0 CommentsPosted on 09 Nov 2010 by admin

ليست هناك تعليقات: